تحليقٌ وهبوط..
وجدتُها تؤوب إلى الله، تنكسرُ ضارعةً بين يديه لعلّه يسامحها ويصلح حالها.. تبكي وتطفئ بدمعها لهيب الندم الذي اشتعل في صدرها إثر آخر معصية، تتلذذ بحلاوة المناجاة، تشعر بشعور خالدٍ يشبه الحلم الجميل... يسري في رُوحها رَوحٌ ونعيمٌ وسلام، تصفُ هذا الشعور كما قرأتُ لأحد الصدّيقين من السلف الصالح: "لو علم الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"... وأخيراً جربتْ ذلك الشعور! كأنما ذابت كلماتهم تلك بين ضلوعها وامتزجت بلحمها ودمها.. إنه شعور يشبه كما أنّ هناك فردوساً على الأرض.. بل أعذب! هكذا قالت لي..
مكثتْ طويلاً تستغفرُ الله على ما أسرفت في أمرها، ثم صارت تكثر من الطاعات، وتتبع الفرائض بالنوافل، تلقي سمعها إلى كلام الله، تنصت إليه كأنها مقصودة به، تستنطقُه وتتدبّر معانيه حتى تعانيه في لحظات خالدة تكاد من روعتها تُجزم أنها لا تنتمي إلى دنيانا..!
تخبرني أنها بعد فترة مّرها فتور.. وذات فراغ..
جاءتها رغبة ملحة في سماع أغنية كانت تُحبها... تتبعها بأخرى، وشاهدت مسلسلها الذي قطعته وقطعت على نفسها وعداً ألا تكمله، ثم نكثت عهوداً كثيرة ألزمت نفسَها بها يوم أن كانت نفسُها نشيطة على الطاعات نافرة عن المعاصي.. وخرجت عن جدولها الإيماني...
لم تقاوم وساوس الشيطان وضعف الإيمان الذي ألمّ بها..هذا حالها
تعصي..
ثم تتوب..
ثم تعصي..
ثم تتوب...
ثم تعصي..
ثم تتوب...
وهكذا تتمنى أن تستمر، إلى آخر الدنيا وأول الآخرة... لا بأس ولا يأس..
لم تستطع التغلب على الشيطان إلا بإتباع المعصية توبة.. ترى أنّ هذا أكبر انتصار سجّلته في حياتها.. وهي محقّة في اعتباره انتصاراً!
هل تخيلت مشهدك في عرصات القيامة قبل ذلك، هل جهزت اعتذاراً لله؟! هي فعلت..
تخبرني وهي ترسم المشهد في خيالها، أنها تلقى الله بفؤادٍ كسيرٍ لم يرغب بالدنيا ولم يركن إليها لكنّ ثقلة الطين وضعف الإيمان ووساوس الشيطان جذبنه نحو الأرض فأخلد إليها إلا قليلاً، وهذا القلب المتقلّب في الحقيقة لم يكن سماوياً بما يكفي ليقاوم كل هذا.. أجل، ربما لم تمت وهي على الصراط المستقيم تماماً، لم تمت كما ماتت عائشة وخديجة وفاطمة.. ورابعة العدوية التي تعتبرها قدوة سلفية لنفسها ...و.. لا تبتعد! .. جدها الصالح الذي قُبِض وهو يرفع يديه لتكبيرة الإحرام في فجر أحد أيام الخريف! عمها المجاهد الذي صدق ما عاهد عليه اللهَ وقضى نحبه مجاهداً في سبيل الله وما بدّل تبديلاً! ولم تعشْ مثلهم كذلك، رضي الله عنهم وأرضاهم... لم تلقَ الله بقلبٍ سليم حقاً... لكنها لم ترغب بأن تلقاه كذلك..! تلقى الله وتخبره أنها ماتت وهي تحاول ثباتاً.. تحاول ثباتاً رغم المتغيرات والفتن التي تعصف بها وتتربّص بقلبها وتنزع عنها إيمانها شيئاً شيئاً... تحاولُ الثبات كثيراً، هي لا تتعذر وإنما تعتذر... تلقى الله وتخبره أنها تحبه كثيراً كثيراً لكنّ الثبات عزيز! تلقى الله وتخبره أنّ نفسها الأمارة بالسوء لم ترحمها، زخرف الدنيا جميل ولم تستطع أن تراه دون أن تلمسه، ولم تكتفِ بلمسه بل أسرفت فيه، لكنّ فؤادها وقد أصبح فارغاً ينطق: لكنك أنت... أنت وحدك الرحمن الرحيم، هربتُ منك إليك... كل الملاجئ تؤول إلى بابك.. دمعة ساخنة انحدرت من عينها وهي تتخيل وقوفها بباب الله، كأنما ودّت أن تسوّى بها الأرض أو تُنفى وتُفنى إلى العدم كما أوجدها من العدم ولا يدخلها النار 💔
ثم..
ثم بصوت خافتٍ يقطع نياط القلوب: سُيقضى أمرٌ ما، سرمدي 💔، تقول..
لا شيء آخر..!
وأخيراً، أتساءل كيف سنعتذر من الله يوم نلقاه إن لم "نحاول ثباتاً"؟! الله استخلفنا في زمن فتن، وأودع فينا الهوى، لكنه دلنا على الجهاد والصبر، و"من يتصبّر يصبّره الله"... لا يزال في العمر بقيّة وفي الحياة مهلة.. لم تشرق الشمس من مغربها بعد... لنبادر جميعاً...
.
كُتب ٢:١٤، ذات صباح..
تعليقات
إرسال تعليق