عن الكتابة...
كانت ولا زالت الكتابة بالنسبة إليّ شغف، ومتنفّس، وحياة، وثورة روحية على ماجرَيات الحياة..
"الألم مداد القلم" كما عنونَ أ. بدر الثوعي إحدى خواطره، قصتي مع الكتابة ابتدأت حينما مررت بموقف مرير فانتفض قلبي، ثم انتفض قلمي مترجماً أنّاتي المجروحة في أعماقي إلى خواطر على أوراقي... أجل، يغرف القلم ما يعتمل في القلب من شجون، ليفضي بها إلى الورق.
هكذا نشأ فيني حبّ الكتابة، وهكذا توطّدت العلاقة بيني وبين القلم، وهكذا صار الورق هو الصديق الصامت الذي يصغي إلى نبضي الهائم.
كبرتُ وكبرَ فيني حبّ الكتابة، فصار قلمي رئتي الثالثة، والنفق المضيء في كهف الدنيا الحالك.
أحبّ أن أكتبَ كثيراً، كثيراً، ولم ولن ولا أريد أن أتبنّى لقب كاتبة، ولا أطمح إليه، أخشى إن بلغته أن أطمئنّ إليه فلا أستطيع أن ألمّ شتات نفسي عبر القلم بعد ذلك، لذلك دائماً أحببتُ أنصاف الألقاب، لأنّ تمامها ربما برّرَ التوقّف في ظلّ الحركة الكونية الدائمة، فأحببتُ أن أكون طالبة علم لا عالمة، ومهتمة بالكتابة لا كاتبة، وحالمة دائماً، يستهويني الطريق إلى الحلم أكثر من الحلم ذاته! يستهويني عيش التجرِبة على الأقل بقدر ما تستهويني الغاية منها.
آمنتُ أنّ كل المواهب التي تطفح بها جوارح الإنسان هي انتفاض للمبدع الكامن في ذاته، فكانت التأليف وكان الرسم وكان الشعر وكان الاختراع... و.. و.. و... وكان الإبداع!
وفي عصر العلم، وفي ظلّ انتشار التأليف الواهم وندرة المؤلفين الحقيقين، وانطلاقاً من تجربتي المتواضعة في المطالعة، رأيتُ أن أكتب بعض الوصايا المهمة، من منظوري، لمن شغفته الكتابة حباً، ورامَ أن يوصل رسالته الإنسانية عن طريق قلمه:
- اقرأ كثيراً، فـ "الإناء إذا امتلأ فاض"، ونوّع في قراءاتك، لا تسترسل في مطالعة الروايات على الدوام فيجنح قلمك للخيال، ولا تسترسل في القراءة العلمية البحتة فتملّ نفسك، ولكن ساعة وساعة.
وحين تقرأ، أمعن التأمل في النصوص، قد يطول نظرك في الكتاب، وربما أخذت في مطالعته زمناً طويلاً، لكن هيهات ألا يكون لذلك أثراً.. بل وأثراً مذهلاً على قلبك بالفكر، وعقلك بالتذكر، ولسانك بالبلاغة والفصاحة، وقلمك بالإبداع الإنشائي.
وفي هذا السياق أذكر تغريدة إرشادية عميقة لـ أ. وليد العاصمي، يقول فيها: "التأمل أثناء القراءة وبعدها يصقل الذهن، ويرتب الأفكار، أما التهام الكتب فإنها تُخرج قارئا سمينا لا يقوى على الركض في ميادين المعاني والبيان"، وقرأتُ ذات مرة نصاً فيه أنّ طريقة القراءة هي التي تنتج العلماء، وأنصاف العلماء، وأشباه العلماء، وذاك يستحقّ التّدبّر والتّأمل.
- تعلّم قواعد النحو والإملاء، إنّ هذه العلوم لا تأخذ من عمركَ زمناً طويلاً، لكنّ أثرها لا يغادر النصوص، فإمّا أن يرفعها أو أن يضعها.
- اكتب رواية؛ لتشحذَ خيالك، لا للنشر.. إنّ من أبقى التجارِب أثراً على قلمي مذ بدأتُ مشروع تعلّم الكتابة، هي كتابة الرواية، لم تكن تمرّ إجازة صيفية منذ كنتُ أقطع مراحل السّلم الإعدادي دونما كتابة رواية، تأخذ مني الواحدة ما يقارب 600 صفحة لكنها تمنحني بالمقابل طاقة إبداعيّة فريدة في إنشاء النصوص وتنميقها، وتشحذ خيالي، وتشحن ذهني بالأفكار والرؤى... مع العلم أنني لم أنشر أيّا منها، وأظننّي لن أفعل! وقد كنتُ أكتفي بأخذ آراء بعض شقيقاتي المقرّبات مني.
لماذا لم أنشر؟ لأنني في كل رواية كنتُ أصعدُ درجة أعلى من درجات الإبداع الكتابي، وهذا الفرق الشاسع في النصوص والأخيلة والعقد والحلول يتضح حين أقارن بين روايتي الأولى من خمس سنوات، وروايتي الأخيرة العام الماضي، ولا زالت الممارسة منهجي القائم في تطوير كلما أريد أن أضيفه إلى ذاتي.... ليس بالضرورة رواية... ربما خاطرة، ربما تغريدة، ربما توثيق كتابيّ للحظات الهاربة... مارس الكتابة فقط! بالطريقة التي تحبها، فللكُتّابِ في الكتابة مذاهب!
أيضاً: لا تستعجل النشر، لا تقطف ثمرة كتاباتك قبل نضوجها، يؤسفني أنني حين أتجولُ في المكتبات أن أجد كتاباً يكون مؤلفه لم يتجاوز مرحلة المراهقة من العمر الكتابي ولم يبلغ قلمه سنّ النضج ولم يتعود بعد على النزف الأدبي، فإذا فتحتَ الكتاب وجدت فيه من الأخطاء النحوية والإملائية - إذا صرفنا النظر عن الأخطاء الإنشائية- ما يندى له الجبين، والمحزن أكثر أن تلك الكتب لاقت رواجاً واسعاً، وهي في حقيقتها خاوية على صفحاتها، فدخلت في زحام الصور الاستعراضية التي تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي، مما أفسد الذوق العام في اختيار الكتب.
لذلك، قاوم انتفاخ "بالون الزهو" الذي ينتفخ في تجاويف نفسك ويدعوك للنشر بعد أول إنجاز، مارس الكتابة أكثر، عاود المراجعة، نقّح نصوصك، ثمّ اقرأها كقارئ لا كمؤلف، ثم انشر فكركَ على أرفف المكتبات!
لا أعلم إن كنتُ أبالغ، لكنني مع رواج تلك الكتب الفاخرة في غلافها، الخاوية في مضمونها، الخالية من الفكر الوجيه أو الأدب السامق أو حتى التعبير المتناسق، صرتُ أطالع الكتاب بصيغة pdf قبل شرائه، وهذه وسيلة ناجعة لتفادي تضييع المال في علم لا ينفع...
وهذه الملاحظة لا تخضع لاختلاف الأفكار، فأنا ممن يضع سبعين تبريراً للكاتب الذي لا يعجبني نصّه ولا يتّفق مع أفكاري، لكنّ الموضوع يصل إلى أبعد من ذلك، ومن جالَ ببصره حول المنشورات المكتبية الحديثة للكتّاب الناشئين اتضح له مقصدي.
وما يدهش أكثر أنّ تجد تلك الألقاب التي ينفخ بها الشيطان كبرياء الكاتب، فتراه يتبجح باللقب الذي يسبق اسمه، ويجعل من نفسه كاتباً ملهماً ومؤلفاً مبدعاً وما إلى ذلك، ثمّ تغبنك الأمثلة المضادة لما يدّعي، فينصب الخبر ويرفع المفعول به، ويكتب التاء المربوطة هاءً، ولا يفرّق بين همزة القطع والوصل، وتباً لتلك الألقاب الوهمية التي تقيّم علم الشخص وأدبه!
عموماً... نعود للغاية...
يقال إنّ الجذور تضرب في أعماق التربة أولاً ثم يظهر الغراس على سطحها بهياً، لذلك اعمل أنتَ في الظلام ثمّ سترى كتاباتك النّور الساطع.. وستثمر... لا تتعجل!
- ليكن المضمون غايتك، لا الشكل، فكثير من الكتّاب جعلوا الشكل هو الغاية وحرفوا المضمون ليزخرفوا ظاهر القول، وهذا لا طائل علمي منه. وكما قال الجاحظ: "شر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ المعنى عشقاً لذلك اللفظ وشغفاً بذلك الاسم"، لذلك لا تنشغل بتهذيب اللفظ على حساب المعنى.
كذلك اعلم أنّك لما تكتب فتلك منة الله عليك، فاحمده أن ألهمك.
وأخيراً، هذه الخاطرة مزيج بوح ونصح، أحببتُ أن أكتب فيها حديثاً يعتملُ في نفسي منذ مدة طويلة.
سبحانكَ اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
تعليقات
إرسال تعليق